خاص القدس البوصلة/

يقول المقدسيون إن 86 يوما قبل ختام عام 2023 مرت كعام كامل على القدس، أيام ثقال لم يمر على المدينة مثلها منذ احتلال غربيها عام 1948، واحتلال شرقيها ومسجدها عام 1967، فكانت سنة طوفان الأقصى بامتياز، حتى غدا تاريخ السابع من أكتوبر مسطرة زمنية يؤرخ بها المقدسيون أيامهم.

ورغم التعديات غير المسبوقة التي تعرضت لها المدينة المقدسة بشقيها المحتلَّين، فإن ما قبل السابع من أكتوبر كان القشة القاصمة والشرارة التي أشعلت فتيل المعركة، حيث كشفت خطابات قادة المقاومة الفلسطينية العسكرية والسياسية مركزية القدس والأقصى في معركة طوفان الأقصى وأفصحت بلا مواربة أن أبرز أسباب اندلاعها كان الدفاع عن الأقصى ومرابطيه.

 

طوفان مبكر في القدس

افتتح الشهيد خيري علقم العام بعملية نوعية ردا على مجازر الاحتلال في مخيم جنين، في 27 يناير/كانون ثاني، حيث حصد العدد الأعلى من القتلى في عام 2023 (8 مستوطنين). ثم لحقه بعد 15 ساعة الطفل الأسير محمود عليوات (14 عاما) الذي فاجأ الاحتلال بإطلاقه النار على مستوطنين مسلحين في قلب سلوان.

 

فوبيا الاعتكاف

شهد شهر رمضان في عام 2023 محاولات إسرائيلية حثيثة لإحباط الاعتكاف في المسجد الأقصى قبل العشر الأواخر من رمضان، نتج عن ذلك اعتقال 450 معتكفا في ليلة واحدة، فيما عُرف بليلة فض الاعتكاف، وتبعها قمع شديد لمحاولة الاعتكاف الليلي في العشر الأوائل من ذي الحجة.

 

العام الأقسى على الأقصى

كان عام 2023 العام الأقسى على المسجد الأقصى منذ احتلاله عام 1967، حيث بدأ باقتحام وزير الأمن القومي الإسرائيلي (إيتمار بن غفير) 3 مرات متفرقة، وانتهى باقتحام 27 جنديا لباحاته وغنائهم النشيد الوطني الإسرائيلي على أعتابه، وتخلله تضييق غير مسبوق على المسجد منذ السابع من أكتوبر، حيث قُلّصت أعداد المصلين إلى الحد الأدنى، وأَمّ صلاة الجمعة في معظم الجُمَع 5 آلاف مصل، ولم تسمح شرطة الاحتلال إلا بدخول أعداد محدودة من المصلين وفق شروط متقلِّبة.

في هذا العام، قدّم المستوطنون القرابين النباتية داخل الأقصى خلال عيد العرش، وأضاؤوا شموعًا خلال عيد الأنوار، ورفعوا العلم الإسرائيلي 3 مرات خلال بداية الشهر العبري ويوم الاستقلال ويوم توحيد القدس، كما شتم المستوطنون النبي محمد صلى الله عليه وسلم داخل المسجد وعند طريق باب السلسلة، وتجلى التقسيم الزماني بأوضح صوره للمرة الأولى، وكان اقتحام عيد الغفران آخر عهد المسجد الأقصى بالإرباك الصوتي وجموع المرابطين. أما عيد العرش فكان آخر عهد أبواب المسجد بالمرابطين المبعدين، حيث شهد عيد الأنوار -بعد طوفان الأقصى- تفريغًا كاملا غير مسبوق للمسجد.

شهدت باحات المسجد الأقصى بعد السابع من أكتوبر اقتحاما ملحوظا من قبل جنود الاحتلال بزيهم العسكري تزامنا مع مشاركتهم في العدوان على غزة أو الحدود الشمالية، حيث تحول معظم أنصار جماعات الهيكل إلى جنود احتياط، وأصبح المسجد مسرحا لتأبين القتلى والدعاء للأسرى.

ورغم إطلاق مبادرة مليونية الأقصى خلال الجمعتين الأخيرتين من عام 2023، إلا أن حواجز الاحتلال وقمعه الشديد حال دون إعمار المسجد بالحد الأدنى من المصلين، حيث منعت قوات الاحتلال ولأول مرة المصلين من الاقتراب من محيط سور القدس، وأطلقت المياه العادمة والقنابل على المصلين في شوارع أحياء القدس، مثل وادي الجوز ورأس العمود، رغم ابتعادها نحو كيلومتر عن سور القدس.

لم تستثن تضييقات الاحتلال طلبة مدارس المسجد الأقصى، فعمدت الشرطة على الأبواب منذ بداية العام الدراسي إلى تفتيش حقائب الطلبة بحثا عن المنهاج الفلسطيني، وأغلقت لأول مرة ولمدة أسبوع كامل مدرسة ورياض الأقصى الإسلامية داخل الأقصى بحجة كتابة كلمة حماس على أحد جدرانها، ضمن سياسة مقصودة تهدف إلى تفريغ المسجد من أبرز عوامل إحيائه، خصوصًا في ساعات الصباح الباكر وخلال فترات الاقتحام.

 

تغييب الوصاية

شن الاحتلال حملة شرسة على موظفي وحراس المسجد الأقصى قبل السابع من أكتوبر من خلال منع الترميم 22 يومًا، ورهنه بإغلاق مصلى باب الرحمة، وبعد السابع من أكتوبر من خلال إهانة الحراس ومنعهم من الدخول، وعرقلة عملهم ومنعه، وسط صمت مطبق من مجلس الأوقاف الإسلامية في القدس، الذي أصدر بيانه الرسمي الأول بعد 81 يوما من معركة طوفان الأقصى استنكر فيه -في 27 ديسمبر- تعليق مستوطن رأس حمار مقطوع في مقبرة باب الرحمة الإسلامية شرقي المسجد الأقصى، حيث ادعى الاحتلال حينها أنه من ذوي الاحتياجات الخاصة.

لم تكن حادثة رأس الحمار الأولى في سجل انتهاكات المستوطنين بحق مقبرة باب الرحمة، حيث نفخوا في البوق بين القبور خلال رأس السنة العبرية، وخلال معركة طوفان الأقصى، ورقصوا فوق القبور وداسوها بحماية قوات الاحتلال.

وأكملت شرطة الاحتلال من داخل الأقصى اعتداءها على مصلى باب الرحمة، الذي تكرر 4 مرات آخرها في أكتوبر الماضي، وتمثل بمصادرة مقتنيات المصلى وتخريبها وتدنيسه بالأحذية.

 

صفقة وصفعة تاريخية

شن الاحتلال حملات مكثفة هي الأشد منذ سنوات ضد أملاك وأموال الأسرى والأسرى المحررين المقدسيين، حيث صودرت مئات آلاف الشواكل بحجة دعمهم من قبل حركة حماس أو السلطة الفلسطينية، وطالت الحملة أكثر من 87 أسيرا، وتكررت 3 مرات على مدار العام، آخرها بعد السابع من أكتوبر.

كان هذا العام مختلفا بالنسبة لأسرى القدس، حيث تضاعفت حالات الاعتقال مقارنة بعام 2022، وتزايدت أيضا حالات الاعتقال الإداري، وأسْهَم عاملان في هذا التضخم، وهما حادثة فض الاعتكاف في رمضان وأسْر 460 معتكفا، وحملة الاعتقالات المسعورة بعد السابع من أكتوبر التي طالت أي مقدسي يُظهِر تضامنه مع قطاع غزة، كما شهد سجن المسكوبية في القدس شهادات مروعة عن تعذيب الأسرى وسوء أوضاعهم.

ورغم القتامة التي غلبت على هذا العام؛ فإنه شهد تحرير 79 أسيرا مقدسيا خلال أسبوع، بينهم 24 امرأة و55 طفلا ممن اكتووا سنوات طويلة بنار الأسر، أبرزهم الأسيرة الجريحة إسراء جعابيص، وأعلى الأسيرات حكما شروق دويات، والأسيرة نفوذ حماد التي تحررت بعد أسابيع من حكمها بالسجن 12 عاما، وذلك خلال صفقة تبادل أرغمت فيها المقاومة الاحتلال على تحرير الأسرى.

 

عدد الشهداء الأعلى

ارتقى بعد السابع من أكتوبر 35 شهيدا مقدسيا، بينهم مبعدون إلى قطاع غزة، ليرتفع بذلك عدد الشهداء منذ بداية العام إلى 47 شهيدا، وهو العدد الأعلى خلال العقد الأخير في القدس، حيث أصر المقدسيون على اللحاق بركب طوفان الأقصى، ونصرة قطاع غزة. وأول من فتح باب المواجهة كانا الشهيدين علي العباسي وعبد الرحمن فرج، اللذين استهدفا البؤر الاستيطانية في سلوان، وآخرهما الشهيد أحمد عليان ابن عم الشهيد بهاء عليان الذي طعن جنودا عند حاجز مزموريا جنوبي القدس.

ومن بين شهداء عام 2023؛ ما زال الاحتلال يحتجز 14 جثمانا، أصغرهم يعود للطفل خالد زعانين (14 عاما)، ليرتفع عدد الجثامين المقدسية المحتجزة منذ عام 2001 إلى 34، بينهم 9 خلال معركة طوفان الأقصى، وجميعهم اتهمهم الاحتلال بتنفيذ عمليات فدائية أو المشاركة في مواجهات ضد الاحتلال. أما أعلاها حصدا وأكثرها نوعية كانت عملية الشهيد خيري علقم، وعملية الشقيقين الشهيدين مراد وإبراهيم نمر.

ونفذ الاحتلال 7 عمليات هدم انتقامي خلال عام 2023، بينها 4 خلال معركة طوفان الأقصى، حيث حرص على ضرب عائلات منفذي العمليات بيد من حديد، وإلحاق أقسى العقوبات بهم لردع غيرهم، في ظل محاولته تحييد القدس خلال طوفان الأقصى.

 

التظاهر بالسيادة بعد تزعزعها

بعد السابع من أكتوبر أغرق الاحتلال شوارع القدس بأعلامه بشكل لافت، حيث نصبها على طول سور القدس وحول البؤر الاستيطانية وعلى أعمدة الإنارة، وفوق المرْكَبات، كما عرض العلَم وعبارة "شعب إسرائيل حي" كل ليلة على سور القدس، واحتضنت بلدية الاحتلال في القدس آلاف المستوطنين الهاربين من مستوطنات غلاف غزة أو شمالي فلسطين.

تلك البلدية التي سخّرت خيرات القدس للمستوطنين الهاربين، مارست أقصى درجات التنكيل بحق المقدسيين وانتقمت منهم عبر توسيع نطاق عمليات الهدم والإخلاء والمخالفات الكيدية، والفصل التعسفي من العمل، حيث بلغت نسبة البطالة في القدس بعد السابع من أكتوبر 500%، وهدم الاحتلال خلال أقل من 3 أشهر 80 منشأة، كما وشنت طواقم بلدية الاحتلال غارات مفاجئة على منازل الأسرى المحررين وفرضت غرامات مالية كيدية عليهم.

 

انتقام البلدية

أخطرُ القرارات التي أصدرتها بلدية الاحتلال بعد السابع من أكتوبر كانت إخطارًا لعشرات العائلات المقدسية بإخلاء منازلها في حي وادي حلوة قرب باب المغاربة غربي سور القدس، بهدف إنشاء محطة قطار هوائي، إلى جانب تهديد بناية سكنية في حي الصوانة بالهدم، والتي تسكنها 18 عائلة بينها عائلة خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري.

وعلى ذكر القطار الهوائي؛ كرَّس الاحتلال معظم مخططاته بالتعاون مع الجماعات الاستيطانية لتهويد بلدة سلوان جنوبي الأقصى، حيث افتتح أطول جسر مشاة في دولة الاحتلال فوق وادي الربابة، وافتتح مركزا للشرطة قرب أرض الحمراء المسربة، كما ووضع حجر الأساس لإنشاء أضخم مركز لدراسات الهيكل المزعوم غربي سور القدس، وذلك بعد أشهر من الإعلان عن وصول بقرات حمر يخطط المستوطنون لذبح إحداها تمهيدا لتأسيس الهيكل.

وبينما منع قسم المعارف في بلدية الاحتلال الأسرى المحررين في الصفقة من استكمال دراستهم في المدارس التابعة لها، رصدت في خطتها الخمسية التي أقرت في أغسطس/آب 800 مليون شيكل لتكريس التعليم الرسمي الإسرائيلي شرقي القدس المحتلة، وزيادة عدد الطلبة المقدسيين الذي يدرسون المنهاج الإسرائيلي.

رصدت البلدية أيضا 800 ألف شيكل للمضي قدما في خطة أطلقتها عام 2019 لخفض صوت الأذان في القدس، وذلك بعد شكاوى من قبل مستوطنين بأن صوت الأذان علا بعد السابع من أكتوبر.

وبعد أن استولى المستوطنون قسرا في يونيو/حزيران على منزل عائلة صب لبن في عقبة الخالدية على بعد أمتار من المسجد الأقصى، تهدد صفقة مشبوهة بتسريب 25% من الحي الأرمني داخل سور القدس بالتسريب للجمعيات الاستيطانية، حيث يشهد الحي بعد السابع من أكتوبر اعتصاما أرمنيا وسط محاولة تطبيق الصفقة ميدانيا في ظل الانشغال العالمي.

 

ختاما

قالت الهيئة الإسلامية العليا في القدس في بيان لها -6 ديسمبر 2023- "إن الاستمرار في التضييق ينذر بانفجار الأمة الإسلامية كلها في وجوههم، وما يحصل في غزة اليوم هو نتيجة مباشرة لعدم استماعهم لتحذيراتنا وصرخاتنا التي كنا نوجهها لهم على الدوام".


أما شبان القدس فقالوا في بيان لهم -18 نوفمبر 2023- "ما لنا وقد سكن الخوف قلوبنا، ما لنا نقف مكتوفي الأيدي تجاه كل ما يحدث، هل نسينا انتصارنا في باب الرحمة والبوابات الإلكترونية؟".

شهدت القدس ومسجدها عام 2023 انتهاكات جسيمة لم تقابل برد فعل يوازيها من قبل المقدسيين وفلسطينيي الداخل، ولم يرق لمستوى المعركة التي اندلعت نصرة للمسجد الأقصى، والتي دفع ثمنها الغزيون من دمائهم وما زالوا.

كشفت قبضة الاحتلال الحديدية وتصرفاته في القدس عن خوف واضح من اشتعال الجبهة المقدسية، التي تشكّل قنبلة موقوتة تقع على تماس مباشر مع الاحتلال ومستوطنيه في المدينة التي يعتبرها الاحتلال عاصمة لدولته.

كما وكشفت أحداث عديدة منها فزع شرطة الاحتلال بعد تعليق رأس حمار في مقبرة باب الرحمة، ومنع النساء والأطفال من دخول المسجد خلال مليونية الأقصى في ديسمبر، كشفت عن هشاشة مبطنة وخشية من وصول طوفان الأقصى إلى منبعه، وتوجس من تكرار أحداث هبتي باب الأسباط والرحمة.



هذه الهشاشة ينبغي أن يستغلها المقدسيون لانتزاع حقوقهم وعدم الرضوخ لإغلاق مسجدهم وهدم بيوتهم وأسر حريتهم، وإلا فإن معادلة الردع المقدسية ستتضاءل مع الأشهر القادمة، وسيمعن الاحتلال في تدجينه وأسرلته حتى إحكام القبضة كليا على المدينة المقدسة، وفرض التقسيم الزماني والمكاني في الأقصى بلا رجعة.

  • لمزيد من التفاصيل والمعطيات طالع تقرير الحصاد السنوي لعام 2023 من إعداد فريق القدس البوصلة
  • مرفق أدناه نسخة PDF من الورقة التحليلة


 

  • اضغط هنا كيف مر عام طوفان الأقصى على القدس؟ PDF